يرى أمبرتو إيكو أن العمل الفني شكل مكتمل ومعالج ككل عضوي متوازن، وفي الوقت نفسه يعتبر منتجا مفتوحا بسبب قابليته للتفسير أو التفسيرات التي لا حصر لها، لأن في كل استقبال منظورا طازجا وجديدا. وعلى الفنان أن يعي أهمية (الفتح) كعنصر من عناصر التفسير الفني، وأنه من المظاهر الإيجابية لإنتاجه الفني.
وهو ما يعني تضاؤل قوة العنصر الذاتي للمشاهد أو القارئ في التأويل، ذلك الذي أعطاه الكلاسيكيون أهمية خاصة.
فإذا كان للمعطى العلمي والثقافي لكل قرن أو عصر، تأثير على بنية الأشكال الفنية، فأصبح المفهوم الآحادي المنغلق عند فنان أو كاتب العصور الوسطى يعكس فهما للكون باعتباره تصورا للأوضاع الثابتة (نظاما صارما للأوزان والقوافي في الشعر مثلا).
بينما في الفن الباروكي بدأ انفتاح جديد حيث حل الملموس محل البصري (يعكس اهتماما جديدا بسيكولوجية الانطباع والإحساس) وهو ما يعد انعكاسا للرؤية الكوبرنيقية للكون، ورفض فكرة مركزية الأرض.
فيما قال سارتر إن الشيء الموجود لا يمكن تقليصه إلى سلسلة معلومة من المظاهر، لأن كلا منها متصل بموضوع دائم التغير، فالشيء يظهر صورا مختلفة ووجهات نظر مختلفة أيضا، وبالتالي يلاحظ المتابع أنه يتم حديثا استخدام المصطلح الفيزيائي والكيميائي للتعبير عن الحاجة إلى معطيات جديدة، مثل “اللا استمرارية”، و”عدم التحديد” التي استخدمها اينشتين.
إلا أن التحفظ الوحيد، هو أن احتمالات (فتح) العمل، تكون دوما (كما في كون اينشتين) في “العمل في الحركة” أي أن هذا الفتح لا يعنى الفوضى أو العبث في القواعد التنظيمية التي تحكم العمل الفني، واحتفاظه بهويته.
إجمالا يمكن الإشارة إلى أن الأعمال (المفتوحة)، مادامت باقية في الحركة، تتميز بالدعوة إلى ربط العمل بالمؤلف، وأيضا على المخاطب أو القارئ أو المشاهد الكشف عن العلاقات الداخلية للعمل والاختيار من خلال فهمه أن العمل الفني مفتوح على مجموعة لا نهائية من القراءات المحتملة.
أما وقد تجلت التكنولوجيا الرقمية بمعطياتها، انطلق ما يعرف بـ “السيبردراما”، حيث التليفزيون الرقمي بمعطياته، وجهاز الكمبيوتر المنزلي أو المحمول.
وتعبير “السيبردراما” مجرد وعاء يتضمن كل ما يتاح مستقبلا من أشكال سردية، مسرحية، قصصية، مسلسلات، .. وكل ما يغطي حاجة الإنسان للتمثيل والقص والاستخدام التحويلي للخيال، مع الإمكانات السردية المتاحة بالوسيط الرقمي.
لعل التزاوج بين جهازي التليفزيون والكمبيوتر، هو مبعث هذا المصطلح الجديد، والذي يشاء بسرد رقمي جديد.
فقد يتيح السيبردراما للمشاهد عرض إحدى حلقات مسلسل ما، على الصفحة نفسها المخصصة للكتابة، بل يتيح مشاهدة مشهد ما تحديدا في الحلقة نفسها دون غيره.
فيما يتبادل مشاهدو التليفزيون الآراء والأفكار، والعمل بالحذف أو الإضافة للعمل الفني من خلال غرف الدردشة التي تتيحها أجهزة الكمبيوتر والإنترنت، ويرفع الشعار “شاهد ثم تفاعل”.
وهو ما يعني أن المشاهدة المنفصلة على شاشتين مختلفتين للتليفزيون والكمبيوتر، سوف تندمج في شاشة واحدة للمشاهدة (التي كانت متاحة مع شاشة التليفزيون لمشاهدها وحدها) ثم تفاعل (على الشاشة التي تستخدم في أجهزة الكمبيوتر وحدها) فضلا عن توظيف جهاز التحكم من بعد (الريموت كنترول) للانتقال إلى القنوات المختلفة في النشاط التليفزيوني.
ما سبق استتبع بالدعوة إلى البحث عن “مسلسل تفاعلي”، يعتمد فيما يعتمد على الأرشيف الرقمي المتضمن المدونات، والألبومات، والرسائل، وغيرها، مع برنامج بث تليفزيوني.
وبذلك تكون الخطوة الأولى هي المزج بينهما (الأرشيف الرقمي والبرنامج التليفزيوني) من خلال حدث درامي مركزي.
ويبدو أن الواقع الفضائي الجديد للكمبيوتر سيفرض بيئات افتراضية جديدة.
ويمكن بث تفاصيل موقع ما في مسلسل، وليكن في مستشفى، فيعرض لتفاصيل مكان استراحة الأطباء، وتفاصيل حياتهم الشخصية، وكيف أن أحدهم يسعى لشراء سيارة جديدة وآخر يبحث عن شقة، وقد تفتح بعض الملفات الطبية وتعرض بعض الصحف الملقاة. فيما يبدو الفضاء الآخر يعرض مواقع عمل درامي مثل الذي يعرض على خشبة المسرح (مثلا).
إن البث التليفزيوني على شكل رقمي، يتيح أيضا توفير مكتبة رقمية تضم ما تم عرضه سلفا، ويحفظ تحت الطلب للعرض من جديد بسهولة ويسر.
لذا اتجه النقاد إلى القول بأن كاتب السيبردراما، سوف يجد الفرصة لكتابة التفاصيل (الطويلة المملة للمسلسلات) والتي يحبها البعض.
كما سيجد الكاتب الفرصة الذهبية لأن يجعل الشخصيات الثانوية شخصيات فاعلة، ولها مساحة كبيرة في المسلسل، حيث يتتبعها شخصية فأخرى وتولد مع كل شخصية حكاية جديدة. وهو ما ينتقض في العمل التليفزيوني التقليدي.
ربما الاقتراح السابق يرجع إلى كون المشاهد حرا في اختيار ما يريد من حلقات ومشاهد، وبالريموت يمكنه الانتقال سريعا إلى حيث يرغب، وبعيدا عن الشخصية أو الحكاية المعروضة تلك. إلا أن أصحاب الرأي يرون أن متابعة كل تلك الشخصيات يتيح للمشاهد حيوات مختلفة.
إلا أن كاتب السيبردراما عليه دوما أن يضع سياقات متعددة للحدث الواحد، وعليه الانتقال المثير والشيق والجذاب فيها جميعا. ويبقى على المشاهد اختيار السياق الذي يتلاءم مع حالته المزاجية أو الفكرية. فحادثة القتل، منها تكون غرفة التحقيقات وتفاصيل ذلك، وفيها الثأر والانتقام من القاتل والبحث عنه، وفيها السعي إلى البحث عن الحقيقة وأسباب الجريمة. وفى كل الأحوال يمكن للمشاهد اختيار ما يرغبه.
كل ما سبق متوافق مع توقع خلو الفضاءات الرقمية في جهاز الكمبيوتر التي هي مشغولة بالكلمات، ومع استخدام المتقدم للجرافيك، وزيادة سرعة وقدرات الإنترنت، سوف تنشغل تلك الفضاءات بالصور ثلاثية الأبعاد التي تخلق عالما جديدا.
وتلك الميزة القادمة أو المتوقع انتشارها، سوف تجعل كاتب السيبردراما يسعى لاكتساب ملكة الارتجال وتوقع سلوك المشاهد وإلى أي الاحتمالات سوف يتجه هذا المشاهد أو ذاك.
يبدو أن كاتب السيبردراما التي تجمع بين القصة الأساسية القوية والدور التفاعلي للمشاهد، سيكون مضطرا لأن يحدد أي المناطق يسمح بها بالتفاعل مع عمله الرقمي الدرامي، وأين يحد من رغبات المتفاعلين في التدخل مع سير الأحداث. وهو بذلك يحافظ على جوهر هوية عمله الفني، وإلا تحولت التفاعلية إلى فوضى.
الآن ترى هل أتاح هذا التناول التقني الفني الجديد المتاح في الولايات المتحدة الأميركية وهو في شكل تجريبي، هل أتاح للتفاعل الحر دوره؟ أم لم يترك فرصة للمتفاعل للتنبؤ أو حتى لإعمال الخيال؟
يبدو أننا سنعيش عصرا خياليا، بينما نحن نفقد خيالنا والقدرة عليه؟