تحية عبدالناصر.. سيدة من زمن الحب.. والثورة
اختارت أن تصنع لحياتها ومضة نور أضاءتها بعطائها وأحاطتها بوفائها وإخلاصها لشخص زوجها وأبنائها، أغلقت بابها عليها وعلي أولادها وهي تعي أنها تساهم في صنع تاريخ رجل يرسم تاريخ أمة.. إنها السيدة التي عاشت الحب بأرقي وأنضج معانيه، وساهمت في صنع ثورة وطن وهي تؤمن أن هذا هو دورها الأسمي في الحياة.. كانت تعي قيمة ما تفعل وتدرك أهميته، ناضلت كما يناضل الثوار.. وكافحت كما يكافح الرجال.. خاضت ميادين الحرب وساحات القتال بعيدا
عن الأضواء وشاشات التلفاز وصفحات الجرائد ووسائل الإعلام.. إنها الفاضلة (تحية محمد كاظم) أو (تحية عبدالناصر) زوجة الزعيم الراحل (جمال عبدالناصر) وشريكة دربه ورحلة كفاحه وحياته.. المعلومات المتاحة عن السيدة (تحية عبدالناصر) لا تتوفر بالشكل الذي يرضي فضول أي صحفي، فقد اختارت لحياتها تلك الهيبة والقدسية وأرادت أن تعيش في ظل زوج أدركت قيمته كما أدرك هو قيمتها كامرأة محبة وزوجة مخلصة وأم حنون.. لعبت السيدة تحية دورا هاما في حياة الزعيم الخالد خاصة في مرحلة الإعداد للثورة واستكمال خلايا تنظيم الضباط الأحرار، كتمت أسراره التي كانت تستنبطها بذكائها الفطري دون أن تقحم نفسها في أمره علنا أمامه فتكلفه عناء الخوف عليها.. شاهدت.. ففهمت ثم دعت له بالتوفيق وباركته.. ثم طوت سره في شرايينها.. وصمتت.. تحملت أعباء أبنائه وبيته وعانت مرارة ابتعاده عنها أثناء وجوده في حرب فلسطين.. عاشت بين دوي المدافع معه لحظة بلحظة.. سمعت أزيز الطائرات وصوت البنادق واشتمت رائحة دماء الشهداء في بزته العسكرية حين عاد إليها محملا بالهموم والجراح.. شاركته في إخفاء الأسلحة التي حملها لمنزله حين كان يدرب الفدائيين المصريين للعمل ضد القاعدة البريطانية في قناة السويس.. لم تكن لها أية أحلام سوي نجاح زوجها فيما يفعل ولم تطمع إلا في العيش معه وسط أبنائها.. كم كانت امرأة عظيمة.. وبسيطة.
منزلهما كان متواضعا وبسيطا مكونا من طابقين وحديقة بمنطقة منشية البكري، كانت حجرة مكتب الزعيم عبدالناصر في الدور الأرضي يسارا، والصالون يمينا، وحجرة نومه في الدور فوق الأرضي وإلي جوارها حجرتها هي.. يفصل بينهما الحمام ومائدة الطعام الموجودة في الصالة الرئيسية.. لم يكن للسيدة (تحية) الكثير من الأصدقاء والمعارف فقد اقتصرت علاقاتها علي زوجات أعضاء مجلس قيادة الثورة مثل زوجة حسين الشافعي وزوجة زكريا محيي الدين، كما ارتبطت بصداقة مع أم كلثوم، وأقرب صديقاتها كانت السيدة نادية غالب حرم المستشار محمد فهمي السيد وهي ابنة أخت السيدة تحية.
.. عندما كانت السيدة تحية تتحدث إلي زوجها أمام الغرباء كانت تشير إليه باسم (السيد الرئيس) وأمام الأصدقاء المقربين لهما كانت تقول (الريس)..
يذكر أن السيدة (تحية) طلبت من الرئيس جمال في عام ٨٦٩١ أن تزور ابنها عبدالحميد وكان طالبا بالكلية البحرية المصرية والتي كان مقرها في بني غازي في ليبيا نظرا لظروف الحرب، إلا أن الرئيس قال لها (لو سافرت لزيارة ابنك يصبح من حق كل أمهات الطلاب السفر معك علي نفس الطائرة).. تفهمت مقولته وضمت شوقها لابنها ولهفتها عليه في صدرها.. ورضيت.. كم كان ناصر رجلا عظيما.. وكم كانت هي أيضا امرأة وزوجة عظيمة.
عندما حدثت نكسة يونيو وألقي الرئيس عبدالناصر خطاب التنحي كانت تشاهده وهي تعتصر ألما ومرارة فالجرح الغائر الذي أصابه مرٌ بقلبها معه.. ظلت تبكي وحينما عاد تماسكت وكفت عن البكاء، دخل الزعيم كأسد جريح إلي حجرة نومه وقطع عنه كل الاتصالات بينما احترمت هي صمته وعزلته وقدرت مدي ألمه وحزنه وأدركت أن أية كلمات في هذه اللحظة أقل من أن تقال له.. ظلت ليلتها متيقظة حتي الصباح.. وقتها خرج الزعيم من حجرته وجلس مع أسرته علي مائدة الإفطار صامتا بدا وكأنه أكبر من عمره بسنوات، لا يعرف ماذا تحمل له الساعات القليلة القادمة فهو الزعيم الذي لم يصبح رئيسا للجمهورية، ولم يجرؤ أحد من أبنائه علي الحديث، لم يقطع هذا الصمت سوي صوت السيدة تحية حين فطنت إلي أن عبارة من قلبها حان موعد خروجها الآن.. (إحنا معاك علي الحلوة والمرة).. لحظات قليلة حتي حاصرت المظاهرات والهتافات بيت الزعيم.. المصريون جميعهم يكررون ما قالته زوجة الزعيم ويطالبونه بالعودة إليهم رئيسا وزعيما..
.. رحل ناصر.. الزوج والحب الأوحد في حياة السيدة تحية وعاشت هي علي ذكري هذا الحب الخالد للرجل الخالد في حياتها والخالد في تاريخ أمته، شاهدت من انقلب علي ذكراه ممن كانوا حوله.. مزقتها مرارة وقسوة الزمن وبعض من تحولوا عنه وأبدوا عكس ما كانوا يبدونه في حياة رجلها.. لكنها ظلت تلك المرأة القوية بمجد زوجها وتاريخه.. خلقت لنفسها فلسفتها ومنطقها وهي تدرك أن عبدالناصر قام بثورته وعرٌض حياته وحياة أسرته للخطر من أجل المصريين البسطاء.. من أجل الفلاحين والعمال والفقراء.. من أجل كل هؤلاء الذين نهبت أموالهم وثرواتهم واستعبدوا علي مدي عقود طويلة من الزمن... كانت السيدة تحية حينما يحيط بها الوجع وتحيطها الآلام تلجأ إلي زيارة بيوت الله فتذهب إلي مسجد سيدنا الحسين وهناك.. يراها هؤلاء الذين أحبهم عبدالناصر فأحبوه.. وأكرمهم فأكرموه حيا.. وغائبا.. يلتف حولها الناس.. يرحبون بها ويمتنون حضورها وتواضعها.. يتأكد لها من جديد أن ما ضحي به زوجها الزعيم لم يذهب هباء.. فها هم أحبته ومخلصوه.. ظلت السيدة تحية عبدالناصر - حرم الرئيس - كما كانت تحب أن تلقب - تعيش ما تبقي من حياتها علي ذكريات الزوج الذي لن يعوض، والزعيم الذي لن يتكرر، وقبل وفاتها أوصت بتسليم منزلها للدولة بعد وفاتها حتي لا يكون للمصريين دين في رقبة زعيمهم رغم أن المنزل كان من حقها هي وزوجها وأبنائها..