الحمد لله رب العالمين ، والصلاة والسلام على خاتم الأنبياء والمرسلين ، نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين أما بعد :
ما أحوجنا جميعاً إلى يقظة صادقة وصحوة مباركة ، ندفع بها هول الرقدة وغمرة الفترة التي غمرتنا فحجبتنا عن بلوغ المعالي ، ومنعتنا من التسابق في ميدان الباقيات الصالحات .
فاليقظة أول تنبيه يتعرض له القلب ، فيشاهد بواسطته حقائق الأمور وخلل الظاهر والباطن .
فهي الإرهاص الأول لتصحيح المسار وتعديل الوجهة .. وهي البداية الحقيقية للاستقامة على الأمر والنهي .. وهي الوثبة الأولى للنهوض من ورطة الغفلة ومحنة التقصير .
روعة اليقظة
قال ابن القيم رحمه الله : (( فأول منازل العبودية : (( اليقظة )) وهي انزعاج القلب لروعة الانتباه ومن رقدة الغافلين .. ولله ما أنفع هذه الروعة ! وما أعظم قدرها وخطرها ! وما أشد إعانتها على السلوك !
فمن أحس به – أي بهذا الانزعاج – فقد أحس – والله – بالفلاح ، و إلا فهو في سكرات الغفلة .. فإذا انتبه شمر بهمته إلى السفر إلى منازله الأولى ، وأوطانه التي سبي منها .
فحي على جنات عدن فإنها *** منازلك الأولى وفيها المخيم
ولكننا سبي العدو فهل ترى *** نـعود إلى أوطـاننا ونـــسلم
فأخذ في أهبة السفر ، فانتقل إلى منزل العزم ، وهو العقد الجازم على المسير ، ومفارقة كل قاطع ومعوق ، ومرافقة كل معين وموصل .
وبحسب كمال انتباهه ويقظته يكون عزمه ، وبحسب قوة عزمه يكون استعداده )) .
فهل أنت مستعد – أخي الحبيب – لهذه اليقظة المباركة ؟ .
هل أنت متشوق لهذا التوجّه الجديد ؟ .
هل أنت جاهز لهذا التحول في مسيرة حياتك ؟ .
إنه – والله مستقبلك الحقيقي ، وسعادتك الأبدية التي إن فقدتها وحرمت منها فقد خبت وخسرت وأحاط بك الشقاء من جميع جهاتك ، ولزمتك الحسرة والندامة .. وليت حين مندم .
إننا لا ندعوك إلى عمل شاق يصعب عليك .. إننا ندعوك فقط إلى وقفة تأمل ، وفكرة حقيقة في المصير والمآل ، ومراجعة حثيثة لما قدمت وما ينتظرك .
فالأمر جد خطير .. ونذير الموت يتربص ، والنهاية الحقيقية في كلمتين : يا أهل الجنة ، خلود فلا موت ، ويا أهل النار خلود فلا موت .
أيُّ قيمة للحياة الدنيا بالنسبة لهذا الخلود الذي لا حدود له ؟!
وأيُّ قيمة للذات الدنيا كلها إذا كان المصير في جهنم !!!
وأيُّ لتعب الإنسان وكدِّه ومواصلته الليل بالنهار في عبادة الله عز وجل عند رؤية ما أعدّ الله لعباده المؤمنين في الجنة ؟!!
* قال النبي صلى الله عليه وسلم : (( يؤتى بأنعم أهل الدنيا من أهل النار يوم القيامة ، فيُصبغُ في النار صبغة . ثم يقال : يا ابن آدم ! هل رأيت خيراً قط ؟ هل مرَّ بك نعيم قطُّ ؟ فيقول : لا والله يا رب !! ويُؤتى بأشدِّ الناس بؤساً في الدنيا من أهل الجنة ، فيقال له : يا ابن آدم ! هل رأيت بؤساً قط ؟ هل مرّ بك شدة قط ؟ فيقول : لا والله يا رب ! ما مرّ بي بؤس قط ، ولا رأيت شدة قط )) . [ رواه مسلم ] .
هذا ما يحدث عند أول غمسة فقط .. فكيف بما يكون بعد ذلك حينما يعرض على المؤمن أنواع النعيم والإكرام ، ويعرض على الكافر أنواع العذاب والنكال .
أليس هذا الأمر جدير بأن نوجه له فكرنا وعنايتنا ولا نغفل عنه ألبته ؟!
أليس يحتاجُ منا إلى وقفة .. بل وقفات .. فمتى تستيقظ أخي من رقدتك ؟!
يقظة السلف
* قال ابن القيم رحمه الله : (( ومن تأمل أحوال الصحابة رضي الله عنهم وجدهم في غاية العمل مع غاية الخوف .. ونحن جمعنا بين التقصير ، بل بين التفريط والأمن )).
هكذا يقول ابن القيم الإمام الزاهد العابد الورع .. فماذا أقول أنا وأنت ؟!
* وقال خليد العصري : (( كلنا قد أيقن بالموت ، وما نرى له مستعداً ، وكلنا قد أيقن بالجنة ، وما نرى لها عاملاً ، وكلنا قد أيقن بالنار ، وما نرى منها خائفاً . فعلام تفرحون ؟ وما عسيتم تنتظرون ؟ أما الموت فهو أول وارد عليكم من الله عز وجل بخير أو بشر ؛ فيا إخوتاه ! سيروا إلى ربكم سيراً جميلا ))
* وكان الحسن يقول : (( التنور يسجر ، والسكين تحد ، والكبش يعلف ، وقال : عجباً لقوم أُمروا بالزاد ، ونودي فيهم بالرحيل ، وحُبس أولهم على آخرهم ، وهم قعود يلعبون )) .
* وكان رحمه الله يقول : (( رحم الله امرأً نظر ففكر ، وفكر فاعتبر ، واعتبر فأبصر ، وأبصر فصبر )) .
* وقال : (( ابن آدم ، ما أوهنك وما أكثر غفلتك ؛ تعيب الناس بالذنوب وتنساها من نفسك ، ونبصر القذى في عين أخيك ، وتعمى عن الجذع معترضاً في عينك !! ما أقل إنصافك ، وأكثر حيفك )) .
* وقال : (( إن المؤمن يصبح حزيناً ويمسي حزيناً ، ولا يسعه غير ذلك ، لأنه بين مخافتين ، بين ذنب قد مضى لا يدري ما لله صانع فيه ، وبين أجل قد بقي لا يدري ما يصيبه فيه من المهلك )) .
* وقال أبو عمران الجوني : (( لا يغرنكم من ربكم عز وجل طول النسيئة ، فإن أَخذه أليم شديد ))
* وقال سفيان بن عيينة : (( كان الرجل من السلف يلقى الرجل من إخوانه فيقول : يا هذا ! إن استطعت ألا تسيء إلى من تحب فافعل . فقال له رجل : وهل يسيء الإنسان إلى من يحب ؟ قال : نعم ؛ نفسك هي أعز الأنفس عليك ، فإذا عصيت الله تعالى فقد أسأت إليها )) .
* وقال خويل بن محمد : (( كأن خويلاً قد أوقف للحساب فقيل له : ياخويل بن محمد ! قد عمرناك ستين سنة ، فما صنعت فيها ؟ فجمعت نوم ستين سنة مع قائلة النهار فإذا قطعة من عمري نوم . وجمعت ساعات أكلي فإذا قطعة منم عمري ذهبت في الأكل ، وجمعت ساعات وضوئي ، فإذا قطعة من عمري قد ذهبت فيها ، قم نظرت في صلاتي ، فإذا صلاة منقوصة ، وصوم متمزق ، فما هو إلا عفو الله تعالى أو الهلكة )) .
* وقال بعض السلف : (( ما نمت نوماً قط فحدثت نفسي أني استيقظ منه )).
* وقال الفضيل بن عياض : (( المؤمن في الدنيا مهموم حزين ، همه مرمَّة جهازه )) .
* ودخل رجل على أي ذر ، فجعل يقلب بصره في بيته ، فقال : يا أبا ذر ! أين متاعكم ؟ قال : إن لنا بيتناً نوجَّه إليه – يعني القبر وما بعده من منازل الآخرة – قال الرجل : إن لابد لك من متاع ما دمت هاهنا – يعني في الدنيا – قال أبو ذر : إن صاحب المنزل لا يدعنا فيه )).
* وكان محمد بن واسع إذا أراد أن ينام قال لأهله : أستودعكم الله ، فلعلها أن تكون منيتي التي لا أقوم منها ، فكان هذا دأبه إذا أراد أن ينام .
* وكان أويس إذا قيل له : كيف الزمان عليك ؟ قال : كيف الزمان على رجل إن أمسى ظن أنه لا يصبح ، وإذا أصبح ظن أنه لا يمسي ، فيبشر بالجنة أو النار .
* أخي الحبيب : هكذا كان _ والله _ سلف هذه الأمة .. يقظة تامة .. علم وعمل .. زهد وورع .. عبادة واستعانة .. يقين وتوكل .. رغبة ورهبة .. إخلاص ومتابعة .. ذكر وشكر .. نصح وذكر .
* ولقد كانوا – أخي – بشراً مثلنا ، ليسوا ملائكة ولا أنبياء ، فلماذا تخلفنا عن طريقهم ، وتنكبنا سبيلهم ، وفرطنا في مناهجهم ؟ إنها – والله – أسئلة تحتاج منا إلى إجابات شافية ، فإن الأمر جد خطير ، والقضية قضية مآل ومصير ، فلننقذ أنفسنا بيقظة عاجلة ، ولنطرد عنا غبار الكسل وركام الغفلة والتسويف .
من فوائد اليقظة
* إذا استيقظ قلب الإنسان أوجب له ذلك فوائد عديدة منها :
1- تنبيه العبد إلى تقصيره في حق ربه .
2- الزهد في الدنيا والرغبة في الآخرة .
3- محاسبة النفس .
4- قصر الأمل .
5- كثرة ذكر الموت .
6- الاعتبار بسنن الله التي لا تتبدل ولا تتغير .
7- الإخلاص واحذر من الرياء .
8- الاعتصام بالسنة والحذر من البدعة .
9- كثرة ذكر الله وشكره وحسن عبادته .
10- تعظيم الأوامر بفعلها ، والنواهي بتركها .
11- التواضع وترك العجب والغرور . قال مورق العجلي : (( خير من العجب بالطاعة ألا تأتي بطاعة )).
12- تحديق النظر في ملكوت السماوات والأرض ، والتأمل في آيات الله المجلوّة .
13- الاهتمام بشأن الوقت ، والحذر من إهداره فيما لا يفيد .
14- تفريغ القلب من الشواغل الدنيوية .
15- الاعتدال في الطعام والشراب والنوم ومخالطة الأنام .
16- قلة الضحك و المزاح .
نسأل الله تعالى أن يحي قلوبنا بتعظيمه والإخبات إليه ، وأن يرزقنا الإخلاص في القول والعمل ، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين .